فيما أرى
التسامح وفخ الكراهية (2-2)
عادل الباز
1
مقدمة
أود أن أهنئ الإخوة في طيبة برس على (ورشة السياق القانوني لخطاب الكراهية 14-16 مايو 2023).. ذلك لعمري عمل نافع لو انصرف داعمو الجنجويد وحلفائهم لمثل تلك الأعمال المفيدة لكنا الآن على ضفة أخرى.. ولكن… يلا سيبك.!.
تمنيت لو حصلت على كل الأوراق كاملة ولكن ما حصلت عليه من ملخصات كان مفيداً، فلقد غطت الندوة كثير من الجوانب التي تستحق أن تدرس، وتستحق التوقف عندها.
في مفتتح الندوة أشار الأستاذ محمد لطيف (إلى تصاعد خطاب الكراهية وازدياد وتيرته خاصة في ظل الحرب الدائرة الآن حتى بات مهدداً للعيش المشترك).
وإنه لقول حق وهي أول كلمة حق يقولها الأستاذ لطيف فيما ما بعد سقوط أحبابه الإنقاذيين.!!.
وقال بروفسير جمعة كندة في ورقته (نحن جميعاً متورطون في ممارسة خطاب الكراهية بشكل أو بآخر وأن خطاب الكراهية بما أنه تواصل فهو يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة كالكلام والإيماءة).
وقد صدق بروف جمعة كندة “كلنا متورطون”…مناهضو خطاب الكراهية الآن في ورشة طيبة برس كان عليهم ممارسة النقد الذاتي لما كان يبث من خطاب كراهية في فترة ما بعد التغيير وتلك واحدة من الفترات التي فاضت بخطاب الكراهية.
المنتدون في ورشة طيبة برس متورطون إما بالفعل أو بالصمت، الآن تذكروا خطورة خطاب الكراهية على العيش المشترك حين بدأ المتنمرون عليهم يسلقونهم بألسنة حداد فشربوا من ذات الكأس الذي كانوا يسقون منهم خصومهم الإسلاميين وقتها. كانت أجهزة الإعلام الرسمية تبث سموم خطاب الكراهية في الرأي العام وكان للأسف صديقنا فيصل محمد صالح الصحفي وداعية الحقوق وزيراً للإعلام وهو ذاته اليوم على سدة طيبة برس داعية مناهضة خطاب الكراهية.. بالله شوف.!!
كنت قد حذرت من السقوط في فخ خطاب الكراهية قبل أربع سنوات من ندوة طيبة برس وتحديداً في May 25, 2020 في مقال منشور بعنوان (التسامح فخ الكراهية.).
ولكن وقتها كان أهل الثورة منتشون بانتصارهم فلم يكن هناك من يسمع، كان التنمر والعنف والكراهية سيدة الموقف، وللأسف لاذ ذات المنتدون اليوم بيوغندا بالصمت تجاه خطاب الكراهية وأفعالها لأن الضحايا وقتها كانوا خصومهم.!! أرأيتم كيف تتبدل الموقف؟ لا أحد يتعظ من التجارب والتاريخ… إنها تدور ياسادة.!!.
أهدى للإخوة في ورشة طيبة برس هذا المقال (القديم/الجديد) وهناك مقال آخر حول أبلسة الخصوم سننشره أيضاً بمناسبة انعقاد ندوتهم القيمة في كمبالا. ومزيداً من الورش والندوات المفيدة.
5
يرزح الإسلاميون الآن في السودان تحت ضغط خطاب الكراهية وحملات التنمر، التي تفيض بها الأسافير منذ بداية الثورة، والهدف منها ترسيخ ذلك الخطاب في نفوس شباب الثورة، من خلال شيطنة خصومها “الإسلاميين”، ودمغهم بكل نقيصة، فهم (قتلة وحرامية وفاسدين)، إضافة إلى قائمة طويلة من الاتهامات التي تغذي خطاب الكراهية باستمرار، وسرعان ما سرت سموم الشعارات والتصورات والاتهامات، لتترجم لأفعال مباشرة،.
6
خطاب الكراهية الذي بدأ بالهتاف والدعوة للعنف، تغذى بالأفعال والقرارات. أحداث العنف التي بدأت منذ حادثة صالة قرطبة قبل عام، إلى التهجم على فعالياتهم بكوستي قبل أسبوعين، رغم محدودية تلك الأحداث، إلا أنها تشي بأن الأقوال (الدوس، الموت والدم) بدأت تترجم وتطبق على أرض الواقع، والنار من مستصغر الشرر.
مصادرات الأراضي والمنازل والشركات التجارية الجارية الآن بواسطة لجنة الإزالة، لم تصدر بواسطة قضاء عادل، إنما بواسطة لجنة سياسية، منحت الصلاحيات تحت قانون معيب، مهدر لأبسط حقوق الإنسان. أضف إلى ذلك حملات التشهير الإعلامية، التي تطال الشخصيات والأسر، من دون تثبت، وهي الأفعال والقرارات التي من شأنها أن تخلف الغبائن وتعبئ النفوس بالضغائن.
7
إذا أضفنا إلى ذلك حوادث العنف المجتمعي التي شهدتها البلاد خلال الشهرين الماضيين، وراح ضحيتها المئات (القضارف – بورتسودان – الجنينة – تُلس – كسلا – الدلنج – الصبي – لقاوا – ثم كادقلي- فداسي واعتداء سنار على ذو النون.). صحيح أن الخلاف بين القبائل والإثنيات، له تاريخ طويل وملئ بمثل تلك الأحداث، لكن تصاعد خطاب الكراهية والتعبئة الجارية بين القبائل والإثنيات، قادت إلى تفجر تلك الأحداث بمعدلات متسارعة ولأتفه الأسباب.
8
يحدث ذلك في ظل انقسامات وحالة تشظٍ تطال كل الكيانات السياسية، في بلد مليء بـ المليشيات والقبائل المسلحة والغبائن، فضلاً عن الحروب المشتعلة في جواره. أضف إلى ذلك وضع اقتصادي متأزم. الباحثون عن مخرج من حالة الاستقطاب السياسي والقبلي والعسكري، لا يمكن أن يدفعوا بتغذية خطاب الكراهية، لأن الأوضاع إذا ما تفجرت، فلن يحصد الجميع إلا الرماد.
الآن وحالنا كذلك، يجب علينا جميعاً التوجه لشراء المستقبل، بدلاً من دوامة الصراعات العبثية، التي خضنا فيها منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، ولم نحصل سوى على وطن متشظٍ ومنهك، يكاد يسقط من فرط الإعياء.
9
حكى لي صديقي الصحفي الأستاذ أمير صديق، حكاية جديرة بالتأمل فقال إنه أثناء تغطيته لبعض الفعاليات السياسية في رواندا، التقى سياسياً من قبيلة التوتسي، فسأله كيف تجاوزتم محنة الإبادة؟ فقال له الرجل إننا وفي أول يوم بعد سقوط الحكومة وانكسار جيشها وانكشاف الهوتو أمام جنود الجبهة الوطنية الغاضبين، ودماء أهلهم وأشلاؤهم لا تزال عالقة في معاول الهوتو وسكاكينهم، في هذا الجو المحتقن الملئ بكل أنواع الشرور، كان ثمة اقتراحات على الطاولة، إما الانتقام الذي كان طريقه سالكاً بعد انكسار جيش الحكومة وفي ظل العار الذي ألجم ألسنة العالم بعد وقوف القوات الأممية متفرجة على مجزرة التوتسي لنحو مائة يوم، أما الاقتراح الثاني فكان المصالحة الوطنية ووقف سلسال الدم الذي توج بتلك المجزرة المروعة.. قال السياسي الذي حدث محدثي، إن تلك اللحظة كانت أصعب لحظات حياته، فقد فقد في المجزرة اثنين من إخوته، قتل أحدهما مع أسرته حرقاً داخل منزله، والأنكى أنه كان يعرف القتلة بالاسم وكان ذات هؤلاء القتلة على طاولة التفاوض، إنه وفي تلك اللحظة الفارقة بين اختيار الانتقام والغرق في حبائل الماضي، وبين التسامح والإمساك بتلابيب المستقبل، تعالى الجميع على جراحهم واختاروا المستقبل، فكانت رواندا التي نراها اليوم.
10
الآن علينا الاستفادة من تجارب الماضي وعبره، لنمضي سوياً لشراء المستقبل، وأول الخطوات الضرورية والحاسمة، أن نتوقف عن بث خطاب الكراهية، لأنه لا سبيل لمجتمع يكره بعضه ويفتقد للتسامح، أن يصنع مستقبلاً مشتركاً لوطن على الكراهية إنما على المحبة والتعايش وقبول الآخر المختلف، أما وطن الكراهية، فهو مرتع الحروب والقتل والإبادة، وهي كلها أمور جربناها فوصلنا إلى ما وصلنا إليه. علينا أن نتوقف عن تجريب المجرب، حتى لا نمضي سريعاً إلى جهنم، ونحن على بعد أمتار منها على كل حال، ويومها سيسأل السياسيون ما سلك وطنكم في سقر …… قالوا لم نكن من المتسامحين!!
ملحوظة: للتاريخ كتب هذا المقال ونشر في يوم 25/مايو 2020 .